توجد العديد من الأبحاث لمساعدة الآباء والأمهات في تربية وتعليم أبنائهم، ولكن على الرغم من توفر هذه الدراسات منذ عقود لا تزال البرامج التدريبية المختصة بتطوير كفاءة الوالدين في مجال التربية نادرة وغير متاحة للجميع وعلى وجه الخصوص البرامج الوقائية منها.
لغرض استحداث برامج تدخل لتعزيز جودة الحياة للوالدين، قام الباحثين مؤخراً بالجمع بين نظريتين أساسيتين:
نظرية "التعلم الاجتماعي" والتي تشرح كيف تشكل التجارب الحياتية للأطفال في المنزل سلوكهم بطرق مختلفة، ونظرية "التعلق" والتي تشرح أهمية الارتباط الآمن بين الوالدين والطفل مقابل الارتباط غير الآمن.
هذه الفكرة الرائعة هي نتيجة التعاون بين علماء النفس في مجالين مختلفين:
1- مجال علم النفس السلوكي والذي يركز على دراسة وتحليل السلوك الإنساني القابل للملاحظة والقياس.
2-مجال الديناميكية النفسية والذي يركز على دراسة تأثير تجارب الطفولة على تكوين وتشكيل شخصيتنا وتأثيرها على سلوكنا الفردي.
في السابق، كان المختصون ينظرون إلى هذين المجالين على أنهما غير متوافقين ولم يفكر أحد في فوائد دمجهما لمساعدة الآباء على تعليم أطفالهم، ولكن بناءً على نتائج بحث جديد، فإن دمج هذين المجالين ساعد المختصين على استحداث برامج تدخل تهدف لتحسين السلوك الأبوي لغرض إحداث تأثيرات إيجابية ومستمرة على العلاقات بين الوالدين والطفل. (Fisher & Skoron, 2017).
من الضروري أن يهتم الآباء والأمهات الحاليين و المستقبليين بفهم طبيعة الجسم الإنساني وذلك من أجل دعم نمو أطفالهم وفهم كيفية التعامل مع سلوك الأطفال بشكل أفضل. لذلك تتشعب برامج التدخل من هذا النوع بشكل متزايد وتكتسب أيضًا الدعم من خلال التعاون مع مختلف المجالات العلمية الأخرى مثل مجال علم الأعصاب (دراسة بنية الجهاز العصبي ، وكيف يتطور وكيف يعمل) ، وعلم الغدد الصماء العصبية ( دراسة كيف يتحكم الجهاز العصبي في إفراز الهرمونات وكيف تؤثر الهرمونات بدورها على الجهاز العصبي) ، علم المناعة العصبية النفسية (دراسة التفاعلات بين السلوك و الدماغ و الهرمونات وجهاز المناعة) ، وعلم التخلق (دراسة كيفية تجارب الأطفال تؤثر على التعبير الجيني لها ، وتنتقل خصائص الأسرة من جيل إلى جيل).
ولكن على الرغم من الوصول لهذا الانجاز في المجال الأكاديمي والسريري حول فعالية هذا الدمج وعلى الرغم من أننا في عام 2023 فإن هذا الانجاز لم يصل صداه إلى الأباء والأمهات ليس فقط للموجودين في العالم العربي وإنما للأباء والأمهات في جميع أنحاء العالم. لذلك من الضروري نشر هذا الانجاز والإعلان عن وجود هذا العمل الفريد من نوعه للمختصين والاسر خصوصا للآباء والأمهات الذين يواجهون مشاكل مع أطفالهم ويبحثون عن حلول أو للذين يبحثون عن برامج تدريبية وقائية فعالة. ولمساعدة الأباء والأمهات الذين لم يحددوا المشكلة بعد و لمساعدة الآباء والأمهات الجدد ولدعمهم في رحلتهم لتجهيز أنفسهم للتنقل في هذه الوظيفة الجديدة (وظيفة التربية) بمعرفة و وعي و خيارات واعية وفعالة.
بشكل عام، تربية الأطفال وتعليمهم ليس بالأمر الهين، ليس سهلا اختيار استراتيجيات السلوك لتعديل سلوك سيئ غير مرغوب أو لتعليم سلوك جيد مرغوب لأطفالهم. وعلى الرغم من معرفة الأباء والأمهات لهذه الاستراتيجيات إلا أن البعض لا يملك القدرة على تحديد جذور المشكلة بينما يستمر بعض الأباء في التفاعل عند مواجهة تحديات جديدة مع أطفالهم أثناء نموهم، دون أن يدركوا أنهم يعرضون الأطفال لخطر التجارب السلبية في مرحلة الطفولة. ومع ذلك، فإن برامج التدريب التي تشمل المجالات السلوكية والديناميكية النفسية اثبتت فاعليتها وقد ساعدت بالفعل العديد من الآباء.
في الأونة الأخيرة تم الحديث بكثرة عن "الصدمات" الناتجة عن الظروف القاسية والسلبية في المنزل أثناء مرحلة الطفولة، الصدمات التي تحدث في المنزل أثناء الطفولة والمراهقة تعود في الأساس إلى عدم قدرة الآباء على فهم مشاعر الأطفال، حيث يقوم بعض الأباء والأمهات ببعض الأفعال غير مدركين تمامًا لعواقب هذه التصرفات على أطفالهم على المدى البعيد مثل: الصراخ، الضرب، العقاب، الانتقاد، السخرية، العنف، الإهمال، والاجبار على الخدمة والمساعدة في الواجبات المنزلية دون حوار أو اتفاقات صحي.
قد يقوم الوالدين بعمل هذه الأفعال بدون قصد وبحسن نية لتعليم أطفالهم خصوصا عندما يكبر الأطفال ويظهرون سلوكيات لا يفضلها الوالدين مثل عدم الاستماع أو الانصياع لوالديهم. قد يشعر بعض الآباء أن هناك شيئًا خاطئًا فيما يقومون به وأنهم قد يحتاجون إلى تغيير طريقة التعامل مع أطفالهم لكنهم لا يستطيعون تحديد ما الذي يجب عمله بالضبط أو كيفية القيام بذلك. بينما يشعر بعض الأباء، بعدم الارتياح تجاه مصطلح "الصدمة" حيث يقومون بتعليم وتربية أطفالهم باتباع نمط والديهم.
تختلف التجارب والظروف من أسرة لأخرى وعلى الرغم من حب الآباء والأمهات لأطفالهم، فإنهم في بعض الأحيان لا يدركون أن العديد من الأفعال التي يرونها طبيعية تعتبر تجارب مؤلمه وسلبية ومجهدة للأطفال ومع تكرارها، يمكن أن تؤثر سلبًا على نظام الغدد الصماء العصبية لدماغ الطفل المسؤول عن تنظيم التعامل مع الضغوطات. بالإضافة إلى أن ذلك يضعف تكوين واستمرارية الرابطة العاطفية بين الوالدين والطفل.
الموضوع معقد حيث أن لكل عائلة ديناميكية مختلفة وتوجد العديد من العوامل المخفية وفي معظم الحالات لا يدرك الآباء خطورة هذه العواقب وتأثيرها على حياة أطفالهم. صحيح أنه ليس كل ما نمر به في الحياة ناتجًا عن تجارب الطفولة السلبية، ومع ذلك من المهم أن يفهم الآباء كيف ترتبط نتائج حياة الطفل ارتباطًا وثيقًا بالبنية المبكرة للدماغ وتأسيس واستمرارية الرابطة العاطفية بين الوالدين والطفل.
يولد كل طفل بطباعه واحتياجاته الفريدة، ويدرك كل طفل التجارب والخبرات التي يمر بها بطريقته الخاصة، يرتبط هذا التصور ارتباطًا وثيقًا بالعواطف عندما يتعلم الطفل منذ سن مبكرة التعامل مع العواطف ليتكيف ويندمج مع أسرته حيث إن التنشئة الاجتماعية لا تعني فقط التواصل مع الآخرين والعيش في حياة اجتماعية خارج المنزل أو على وسائل التواصل الاجتماعي، بل يعتبر التواصل اليومي بين الوالدين والأطفال تجربة اجتماعية وذلك لأن أفراد الأسرة يتواصلون مع بعضهم البعض أثناء تفاعلهم مع بعضهم البعض في المنزل. هل تعلم أن غياب التنشئة الاجتماعية الصحية في المنزل يعتبر غير صحي للطفل؟ حيث أن الأطفال يتعودون على أسلوب التنشئة الاجتماعية لوالديهم يقومون بنسخ المخزون السلوكي لوالديهم من تصرفات وأفعال ويتعلمون أيضًا التكيف معها. بل يجبر الأطفال على تعلم الأطفال قبول تأثير والديهم وتطوير أدوار وظيفية من أجل التعايش والبقاء على قيد الحياة.
المراجع:
Felitti, V. J., Anda, R. F., Nordenberg, D., Williamson, D. F., Spitz, A. M., Edwards, V., Koss, M. P., & Marks, J. S. (1998). Relationship of childhood abuse and household dysfunction to many of the leading causes of death in adults: The Adverse Childhood Experiences (ACE) Study. American Journal of Preventive Medicine, 14(4), 245–258.
Fisher, P. A., & Skowron, E. A. (2017). Social-learning parenting intervention research in the era of translational neuroscience. Current Opinion in Psychology, 15, 168–173.
Juffer, F., Bakermans-Kranenburg, M. J., & van IJzendoorn, M. H. (2017). Pairing attachment theory and social learning theory in video-feedback intervention to promote positive parenting. Current opinion in psychology, 15, 189-194.
Rowell, T., Neal-Barnett, A. (2022). A Systematic Review of the Effect of Parental Adverse Childhood Experiences on Parenting and Child Psychopathology. Journal of Childhood and Adololescent Trauma 15, 167–180.
Zayia, D., Parris, L., McDaniel, B., Braswell, G., & Zimmerman, C. (2021). Social learning in the digital age: Associations between technoference, mother-child attachment, and child social skills. Journal of school psychology, 87, 64-81.